الاجتهاد المقاصدي عند مجددي المالكية من خلال مراعاتهم لقصد المكلف وأثر ذلك في استنباط الأحكام وتنزيلها
صفحة 1 من اصل 1
الاجتهاد المقاصدي عند مجددي المالكية من خلال مراعاتهم لقصد المكلف وأثر ذلك في استنباط الأحكام وتنزيلها
ناقش الباحث البشير القنديلي أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي لمادة التربية الإسلامية بمدينة آسفي. أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه وعنوانها:"الاجتهاد المقاصدي عند مجددي المالكية من خلال مراعاتهم لقصد المكلف وأثر ذلك في استنباط الأحكام وتنزيلها". وذلك بجامعة القاضي عياض، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وحدة البحث والتكوين: بنية الاجتهاد ومناهج الاستدلال والاستنباط في المدرسة المالكية المغربية، بتاريخ 09 شعبان 1433موافق 29 يونيو 2012.
المشرف: الدكتور أحمد علوي أمحرزي
أعضاء لجنة المناقشة والتقويم:الدكتورة أمينة السعدي، الدكتور إسماعيل الحسني، الدكتور مصطفى الوضيفي، الدكتور عبد الكريم عكيوي.
فكرة البحث وخلاصته:
لا يخفى على الدارس للعلوم الإسلامية، أن مساحة الاجتهاد وإعمال النظر واسعة وكبيرة، وإنما قصَد الشارع الحكيم ذلك لحِكم بالغة، لعل أظهرها إيقاظ همم الناس وشحذ عقولهم ليتفاعلوا مع هذا الدين الخالد الخاتم، ضبطا لنصوصه وفهما لها، وتنزيلا لمقتضياتها على واقع المكلفين؛ بما يهدي إلى مقاصد هذه النصوص، ويحقق مراد الشارع من تشريعه.
من هذا المنطلق، لم يكن الاختلاف في وجهات نظر العلماء بشأن كثير من قضايا العلوم الإسلامية أمرا مستهجنا ولا معيبا طالما أن ثمة مبادئ للفهم وضوابط للعمل بنصوص الوحي الكريم، بل كان ولا يزال دليلا على ثراء منظومتنا الثقافية، وبرهانا على غنى تراث المسلمين العلمي عموما، والفقهي التشريعي على وجه الخصوص.
ولما كان الاختلاف في الفروع والجزئيات أمرا لا مناص منه، ولا غبار عليه، طالما أن الشرع يُسيغُه، وواقع المكلفين من حيث تفاوت أحوالهم وتباين قصودهم يقتضيه؛ فإن أنظار العلماء والمجتهدين بشأن كبريات القضايا وأمهات المسائل هو ما يحتاج معه المرء إلى البحث والتمحيص، حتى يتبين وجه الصواب، ويستبين سبيلَ الحق ليسلكه وهو مطمئن النفس، منشرح الصدر.
وأحسب أن من جملة القضايا المستأثرة بالاهتمام، المحتاجة إلى أولي الحِجى والألباب؛ قضية "مراعاة قصد المكلف" التي دعا غير واحد من الباحثين في المقاصد إلى ضرورة الاهتمام بها وبحث مسائلها، بالقدر الذي يُجلي حقيقتها، ويبرز مدى تعلق الأحكام بها. فقد أشار الدكتور عبد الحميد العلمي إلى ضرورة: (مضاعفة الاهتمام بمقاصد المكلفين والعمل على تقصي أحوالها، ومعرفة ما يعتريها من ضروب الثبات والتغيير، والتفرد والتعدد والاختيار والاضطرار، مع العمل على إيجاد قانون يضبط علاقاتها ويميز بين أولها وثانيها، وبين صور التطابق والتدافع فيها، والعمل على بحث أوجه التقابل بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، وذلك بتعيين مسالكها وبيان أحوال المطابقة والمناقضة فيها)[1]. أما الدكتور جمال عطية فقد ألمح بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة الاهتمام بمقاصد المكلف، فبعد أن أورد كلام الغزالي عن المصلحة وتعريفه لها قال معقبا: (ولعل هذه الفكرة هي أصل اهتمام الشاطبي بمقاصد المكلفين، ولكنه توسع فيها من ثلاثة سطور لدى الغزالي إلى تسعين صفحة تدور حول فكرة أن المطلوب من المكلف موافقة قصده لقصد الشارع مضمنا ذلك ما يتعلق بالنية والحيل وغير ذلك)[2].
وإذا كان الشاطبي قد حاز قصب السبق لا في لفت الانتباه وتوجيه الأنظار إلى ضرورة مراعاة مقاصد المكلفين- إذ أنه مسبوق في ذلك بأئمة آخرين لعل أبرزهم الحافظ ابن عبد البر والجويني والعز بن عبد السلام، وتلميذه القرافي، والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم - بل في إحكام صياغة القواعد المتعلقة بها، وهو من هو في الخبرة بعلوم الشريعة ومقاصدها، فإن الأمر ما يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث، لأن المكلف هو من سيمارس التكليف، ومن سيسعى إلى تنزيل الأحكام، ولأن (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة)[3].
وحيث إن القول بمراعاة قصد المكلف، وبناء الأحكام على ذلك أمر غير مسلَّم، وغير واضح، وغير معمول به عند كافة العلماء والمجتهدين بنفس الدرجة والقوة، بحجة أن القصد أمر باطن وغير منضبط! ومن ثم كان التعويل على الظاهر هو الأصل الذي لا ينبغي تجاوزه، والملاذ الذي ينبغي الركون إليه حتى لا تنبني الأحكام إلا على المسوغات الشرعية المحقَّقة والمتيقَّنة، ولا تُبنى على التخمينات والظنون! فإن الناظر إلى نصوص الوحي الكريم، يلحظ بجلاء أنها عُنيت بإصلاح البواطن قبل الظواهر، والسرائر قبل الأشكال والمظاهر، وهذا الأمر إن كان لا غبار عليه فيما يتعلق بالقربات والطاعات التي يقوم بها المكلف الفرد في علاقته بالله عز وجل، أي أن شرط الإخلاص لا بد من تحققه وإلا حبط العمل وكان سيء القصد من الخاسرين. قال ابن عبد البر - رحمه الله- تعليقا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[4]: ( قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث" إيمانا واحتسابا" دليل على أن الأعمال الصالحة إنما يقع بها غفران الذنوب وتكفير السيئات مع صدق النيات، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لسعد: " لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت فيها" ومحال أن يزكو من الأعمال شيء لايراد به الله تعالى)[5]؟ وقال ابن رشد الحفيد: (اتفق العلماء على كونها- أي النية - شرطا في صحة الصلاة، لكون الصلاة هي رأس العبادات)[6]؟
إذا كان الأمر كذلك فيما له صلة بالقربات والعبادات المحضة، فهل ما يتعلق بالأحكام المرتبطة بتصرفات ومعاملات المكلفين فيما بينهم مما له صلة بالأمور الدنيوية هو الآخر يحتاج من الفقيه المفتي أو القاضي أو المكلف نفسه إلى استصحاب الباعث والقصد، حتى تتحقق مقاصد الأحكام؟
إن من المقرر عند المحققين من أهل العلم أن: (المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات)[7]. يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: (من يطالع الكتاب الكريم وسنة المصطفى المختار بتدبر وتأمل يعلم أن الدين الإسلامي عني بإصلاح مقاصد المكلفين ونياتهم عناية تفوق اهتمامه بأي مسألة أخرى، ذلك أن الأعمال تصبح مظاهر جوفاء، وصورا صماء إذا خلت من المقاصد الحقة)[8].
إن كل تصرف يقْدم عليه المكلف، وكل عمل يباشره، له مقصد وغاية يرمي إلى تحقيقها، وهذه التصرفات وإن كانت في ظاهرها سليمة لا غبار عليها (بمعنى توفر فيها شرط الصواب) فالعبرة ليست بالظاهر والشكل فقط؛ إذ قد يضمر المكلف بواعث، ويخفي مقاصد لو أعلنها ابتداء لأثرت في الحكم على التصرف وعلى العقد، عملا بالقاعدة المشهورة: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني)[9]، والقاعدة الأخرى (القصود معتبرة في العبادات والتصرفات)[10].
فعقد الزواج مثلا هو ميثاق ترابط وتعاقد شرعي بين رجل وامرأة غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين، كما يعرفه الفقهاء والقانونيون، فإبرام العقد بهذا القصد هو قربة من القربات، وطاعة من الطاعات، لكن إذا كان القصد منه الإضرار بالزوجة، وابتزاز مالها، وإساءة عشرتها، أو تحليلها لمطلقها، فإن إبرام هذا العقد ينتقل من كونه قربة إلى كونه مجلبة للإثم.
والغاية مثلا من عقد البيع: رغبة المشتري في تملك المبيع، ورغبة البائع في تملك الثمن، فالصورة الظاهرية لعقد البيع لا غبار عليها، لكن مقاصد المتبايعيْن وبواعثهما قد تكون سيئة بحيث لو اطُّلع عليها ابتداء بأمارات وقرائن دالة؛ لأثرت في حكم إبرام هذا العقد، كأن يكون مشتري المحل يتغيى اتخاذه وكرا للقمار أو البغاء أو بيع الخمر... ولذلك كان لزاما على القاضي والفقيه التثبت، وإيلاء مقاصد المكلفين وبواعثهم ما تستحق من العناية قبل تقرير الحكم؛ لأن المقاصد كما يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر، تتوجه إلى أمرين دائما:
- (الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه.
- الثاني: الغاية البعيدة التي يريدها القاصد من وراء عمله، فالإنسان لا ينطلق إلى العمل ما لم يلمح فيه ما يدعوه إلى فعله)[11].
ولما كان من بين أصول المالكية المعتبرة، مراعاة مقاصد المكلفين؛ فإن التحقيق في هذا الأمر، وبيان بعض تطبيقاته، وآثار ذلك على الاستنباط الفقهي، والتنزيل للأحكام على الواقع، هو ما درأني للبحث في الاجتهاد المقاصدي وما يدور في فلكه، ويتعلق به من مسائل، خاصة ما له صلة بمراعاة مقاصد المكلفين وبواعثهم ومآلات أفعالهم، وبناء الأحكام على الظنون الغالبة إذا ظهرت القرائن، ولاحت الأمارات؛ لما لهذه المراعاة من أثر جلي في استمداد الأحكام من مداركها أولا، وإعمالها في الواقع.
وإنما حاولت مقاربة الموضوع بالتركيز على مجددي المالكية عموما، وعلى عَلَم من أعلامهم المبرزين خصوصا، وهو العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي، لما لحظته ولاحظه غيري من رسوخ في العلم، وقوة في الحجة وعناية خاصة ومركّزة بتحرير القواعد المتعلقة بالمقاصد بقسميها: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف عند هذا الجهبذ الذي أطبق العلماء والباحثون على انطباق وصف المجتهد عليه، واستحقاقه للقب المجدد[12]
أوَ لم يقل- رحمه الله - بأنه يجب (أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا وقولا وعملا)[13]. وأن (فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه)[14]؟
إنما الأعمال بالنيات:
إذا كانت (الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات)[15]. وكان (العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون)[16]. وكانت (الأدلة على هذا المعنى لا تنحصر)[17]؛ فإن مراعاة مقاصد المكلفين واعتبار مآلات أفعالهم، وبناء الأحكام على المظنات الغالبة إذا دلت القرائن المُنبئة عن سوء القصد وفساد النية؛ له ما يسوغه في الشرع؛ إذ من القواعد المعتبرة (أن المطلوب من المكلف ألا يقصد خلاف ما قصد الشارع)[18]. وأن المعاملة بنقيض القصد الفاسد من الأمور التي يشهد لها الشرع بالاعتبار.
وإنما يتأكد إعمال هذا المنهج الاجتهادي ويتحتم - مع ضرورة أخذ الحيطة والحذر من اتهام النوايا بلا براهين، والتعسف في إطلاق الأحكام الجزافية - عند فساد الذمم، وضعف التدين، وشيوع القصود الفاسدة والتصرفات المتحايلة على الأحكام بغرض التذرع والوصول إلى غير مقصود الشارع الحكيم.
إن كثيرا من الأحكام الشرعية بناها الفقهاء على مراعاة التهمة والالتفات إلى مقاصد المكلفين وبواعثهم، بل إنهم قعدوا قواعد تفيد هذا المعنى وتؤكده، من قبيل: (التهمة تقدح في التصرفات على الغير إجماعا)[19]. و(من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه)[20].
- البحوث السابقة في الموضوع:
من خلال ما تقدم يتبين أن موضوع هذا البحث متشعب المسالك، مترامي الأطراف، ولئن كان ينحو منحى البحوث المقاصدية فإن صلته بمباحث الفقه والأصول والنوازل والفكر الإسلامي تبدو وثيقة، لذلك كانت البحوث بهذا الشمول عزيزة الوجود؛ وهذا لا يعني أن أجزاء الموضوع لم تُبحث من قبلُ، أو لم يطرُقها علماؤنا القدامى وفرسان البحث المحدثون؛ غاية ما هنالك أن الربط بين هذه الأجزاء ودراسة علاقات التأثير والتأثر بين مراعاة المالكية لمقاصد المكلفين واستنباط الأحكام وأثر هذه المراعاة في تنزيل الأحكام على الواقع، وصلة كل ذلك بالاجتهاد المقاصدي هو ما تطلب مني قدرا معتبرا من الجهد والوقت.
ولقد وقفت على بحوث حديثة لها صلة ببعض أطراف الموضوع فضلا عما تناثر في مصنفات علمائنا الكبار، حاولت جهدي لمّ شتاتها، وضمّ أطرافها، وتنسيق موادها، واستخلاص الفوائد الخادمة لموضوع البحث.
ويمكنني في هذا الصدد الإشارة إلى بعض من تناول الموضوع وإن بشكل جزئي:
- العز بن عبد السلام (ت660هـ) عقد فصلا في كتابه الفريد" قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" لما يقدح في الظنون من التهم قصرها على مراتب التهمة في الشهادة، وسأبين في الفصل الثاني من الباب الأول وجه العلاقة الوطيدة بين مراعاة قصد المكلف ومراعاة التهمة في استنباط الأحكام الشرعية.
- ذكر الدكتور مصطفى القصاب أن أبا العباس أحمد بن محمد البويعقوبي المغربي المالكي عقد فصلا سماه" مسائل من التهمة على فسخ الدين بالدين " استخرجها من مدونة الإمام مالك" وضمّن ذلك رسالته: "التحرير بمسائل التصيير"[21].
- ابن تيمية (ت728هـ) ألف كتابا عنوانه " بيان الدليل على بطلان التحليل"، والكتاب وإن كان يتناول جزئية فقهية، غير أن المؤلف أطال النفَس في الحديث عن الحيل ومقاصد المكلفين.
- ابن القيم (ت751هـ) سلك مسلك شيخه وأفاض في الحديث عن الحيل والذرائع في مؤلَّفه النفيس "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ولا تخفى صلة ذلك بمقاصد المكلفين.
- الشاطبي (ت 790هـ) في القسم الثاني من كتاب المقاصد تحدث في اثنتي عشرة مسألة عن مقاصد المكلف، وحرر قواعده بشكل غير مسبوق، وسأعْرض مادة هذا القسم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الثالث، لأبرز من خلال هذا العرض النظرة التجديدية لهذا الإمام المجتهد والمنتسب مذهبيا إلى المالكية، مع بيان آثار قواعده المتعلقة بقصد المكلف على الاستنباط والتنزيل للأحكام الشرعية.
- ابن فرحون المالكي (ت799هـ) خصص بابا من خمس عشرة مسألة في " القضاء بالاتهام وأيمان التهمة " تحدث فيها عن الإقرار والشهادة، وذلك في الباب الثامن والعشرين من "تبصرته".
- أبو العباس الونشريسي تحدث في " المعيار المعرب..." عن "مظان التهم القادحة في الشهادة" في سياق تناوله لنوازل الشهادات[22].
وأما عند المحدثين فقد وجدت بعض أجزاء الموضوع مُتناولة في البحوث الآتية:
- أثر القصود في التصرفات والعقود للدكتور عبد الكريم زيدان، وهو رسالة صغيرة (26 صفحة من القطع الصغير).
- مقاصد المكلفين في ما يُتعبد به لرب العالمين، للدكتور عمر سليمان الأشقر.
- الفكر المقاصدي عند الإمام مالك وعلاقته بالمناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني الهجري، للدكتور منصف العسري.
- مقاصد المكلفين عند الأصوليين للدكتور فيصل بن عبد العزيز الحليبي.
- المقاصد في المذهب المالكي خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، للدكتور نور الدين الخادمي.
- مقاصد الشريعة عند الإمام مالك للدكتور أحمد القياتي.
- البعد المقاصدي لمراعاة التهمة للدكتور مصطفى القصاب (رسالة دكتوراه غير مطبوعة، نوقشت في يونيو2010، بكلية الآداب، بمكناس/ المغرب).
ولابد من الإشارة إلى أن هذه البحوث لم تتمحض للحديث عن مقاصد المكلف، ولا عن آثار مراعاتها على الاستنباط والتنزيل للأحكام، ولم تُعن ببيان ولا بحجم حضور هذا الأصل الاجتهادي عند المالكية.
فقد استأثرت مقاصد الشارع بالاهتمام في بعضها، و حظي مبحث النيات والإخلاص بالعناية في بعضها، وشغل إبراز المنحى المقاصدي عموما في اجتهادات المالكية حيزا معتبرا في بعضها الآخر؛ غير أن بحث الدكتور مصطفى القصاب في حيز معتبر منه، وإن كان أقرب هذه البحوث إلى الموضوع الذي أبحثه، إلا أنه جاء على نمط كتب الخلاف العالي، أو الفقه المقارن، فكان الباحث يورد الأقوال ويناقشها، ويستخلص منها ما يخدم موضوعه، ويبرز البعد المقاصدي لمراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، ولم تتقيد الدراسة بمذهب بعينه.
لذلك ارتأيت أن أدلي بدلوي، وأساهم بحسب وسعي في إنضاج هذا الموضوع، وأسلك هذا المسلك الوعر، مستعينا بالواحد الأحد ومتوكلا عليه سبحانه، متمنيا أن يتمهد السبيل لذوي الهمم العالية والأقدام الراسخة في العلم لإثراء الموضوع وإغنائه.
خاتمة:
وبعد،
فها قد وفيتُ بما وعدت في مقدمة البحث بإنجازه! وبعد هذا الجهد الذي أرجو ثواب بذله من الله العلي القدير؛ أحس بأني في بداية الولوج إلى رحاب العلوم الإسلامية الممتدة الأطراف، المتسعة الأرجاء، المتشعبة المسالك.
ولكم صادفتُ من عقبات كأداء، ومنعرجات مربكة للمسير مثبطة للخطى؛ منها ما يتصل بمجال البحث العلمي الصرف، ومنها ما له صلة بظروف الحياة وانشغالاتها (اللامتناهية)! ولولا قدْر من الصبر والمثابرة بتوفيق من الباري جلّت قدرته لما استطاع المرء المضي قُدما في مسيرة البحث والاطلاع، وسط بحر لُجّي من المعوقات المُبعدة عن أجواء الطلب والتحصيل، في زمن صارت قضايا البحث العلمي الرصين، وهموم المدارسة الجادة، لا تستأثر إلا بفضول الأوقات، وضعيف الاهتمام؛ حتى من قِبل "النخبة"، ممن يُتوسم فيهم الحرص على حمل العلم وحفظ ميراث النبوة. وأختم هذه الفقرة بالتأكيد على أني بذلت في لمّ شتات البحث غاية الجهد، واستفرغت طاقتي ووسعي لبحث مسائله، ومع ذلك أحس بأني لم أمسك بعد بناصية الموضوع، ولم أتحكم فيه التحكم الذي كنت أرتضيه، وإني عاقد العزم على مواصلة البحث والاطلاع ما وسعني الجهد، وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.
ولا يسعني إلا أن أستعير ما قاله ابن خلدون في مقدمته: (أنا (...) راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الغضاء، في النظر بعين الانتقاد، لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف- من اللوم - منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة)[23].
وما أحسن ما نقله المناوي في خاتمة شرحه لمقدمة كتاب الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير عن ابن الكمال، قال: (ولما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما تباشره أبدانها من الأعمال، فكل عمل بنية صادقة رحمانية عن هيئة نورانية؛ صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل عمل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة غاسقة ظلمانية صحبه محق وشؤم وتفرقة)[24].
إن من طبيعة البحوث ألا ينتهي منها أصحابها إلا إذا حان موعد إيداعها وتقديمها لانتظار مناقشتها؛ وإلا فما دامت بيد صاحبها فلن ينتهي من التهذيب والتنقيح والزيادة والنقصان، وما أجود ما قاله القاضي الفاضل البيساني في رسالة أرسلها إلى عماد الدين الأصفهاني: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يوم إلا قال في غده، أو بعد غده: لو غُير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل؛ وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر)[25].
ولا يفوتني أن أستعير ما قاله الشاعر:
وما أبرئ نفسي إنني بشر<<>>أسهو وأخطئ ما لم يحمني قدر
وما ترى عذرا أولى بذي زلل<<>>من أن يقول مقرا إنني بشر
وما قاله شاعرآخر:
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج<<>>مؤملا كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا<<>>فكم لرب الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعا<<>>فما على عرج في ذاك من حرج[26]
فكل عمل بشري إلا ويطبعه القصور والنقص، فسبحان من له الكمال المطلق، والمنزه عن كل قصور وخطأ. والحمد لله من قبلُ ومن بعد على واهب العطايا ومانح النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صعوبات البحث:
لا يكاد يخلو إنجاز أي بحث علمي من صعوبات تعترض الباحث وهو يلمّ شتات موضوعه، ويرتب أبوابه وفصوله ومباحثه، إذ المعاناة تصاحب الباحث وتلازمه منذ بداية التفكير في الموضوع إلى حين تذييله بمصادره ومراجعه.
هذا والباحث يزاول نشاطه البحثي في أنسب الظروف وأليق الأجواء، فكيف إذا لم يكن متفرغا لذلك، ولم يتيسر له الحصول على المصادر والمراجع الكافية والمساعدة إلا بعد جهد جهيد.
وإذا كان لابد من ذكر بعض الصعوبات التي واجهتني وأنا أشتغل على هذا الموضوع الممتد والمترامي الأطراف، والضارب بعمق في صميم أدق الفنون وأكثرها فائدة - على حد تعبير ولي الله الدهلوي- وهو علم المقاصد وما يرتبط به عضويا من فقه وأصول وتفسير ونوازل...؛ هوعدم التفرغ للبحث العلمي تفرغا يساعد على استثمار الوقت وترتيب الأفكار وجمع المعلومات وتوظيفها، بما يخدم موضوع البحث ويُثريه.
فلا يخفى على مجرب أن مزاولة العمل المهني - خاصة التدريس - وما يتطلبه من التزام وتحضير ومتابعة وتقويم، ووفق جدول زمني لا يراعي البتة اهتمامات الباحث وانشغالاته؛ لممّا يجهض التطلعات، ويربك التخطيطات، ويحول دون إنجاز المأمول المرغوب فيه. فما أن يصفو الذهن، ويأنس الوجدان، ويتذوق حلاوة المضي قدما في اكتشاف الجديد ومعرفة المفيد، حتى تدخل على الخط هموم العمل المهني الوظيفي، وانشغالات الحياة اليومية فتكدر صفو أجواء البحث وتصرف الفكر عن الانشغال بقضاياه؛ وقد صدق من شبه العمل العلمي الأكاديمي بعمل عامل "الجبس" إذا شرد عن عجينه وخليطه لزمن قصير وجده قد يبس وتصلّب، ولن يطاوعه لتكييفه حسب الأشكال والقوالب التي يريد!
في بداية تسجيلي للبحث كنت أحسبني - بحكم الرغبة في التحصيل والطلب - وبقدر من المثابرة والمواظبة اليومية على المدارسة والمطالعة، قادرا على التحكم في الموضوع وضبط شعابه؛ غير أن ما حسبته هينا وجدته عند الممارسة عظيما؛ فلم أجد بُدّا من الصبر والمضي قدما في الاطلاع على كل ما له صلة بالموضوع من كتب قديمة وبحوث معاصرة؛ وقد كلفني ذلك زمنا غير يسير من عمر البحث ومدة إنجازه القانونية...
ولا يخفى على مزاول، أن الاسترسال في القراءة يورث نهما، ويغري بالبحث عن الجديد، مما قد يتيه بالمرء عن الوجهة التي هو موَلّيها، والموضوع المحدد الذي يتغيى الكتابة فيه؛ وما لم تتم المبادرة بالتقييد والتحرير فربما تمضي السنوات ولا يكاد يجد بين يديه شيئا مدونا محررا.
ولعل من حسنات البحوث الأكاديمية أنها تجعل الباحث وهو يراكم المعلومات، ويغني الرصيد المعرفي؛ يبقى فكره دائما منشغلا بما بين يديه من تقييدات تشكل المادة الخام، والأساس الذي سيبني عليه بحثه ودراسته.
ومن الصعوبات التي واجهتني أيضا، امتدادات الموضوع، وتشعب أرجائه، وشساعة أبعاده، وتنوع قضاياه، واتصال مباحثه بمجالات عدة من حقول المعرفة الإسلامية، بل بأدقها وأكثرها احتياجا إلى رصيد علمي معتبر. وهو الأمر الذي اضطُررت معه إلى التوقف عن الكتابة والتقييد لما له صلة مباشرة بالبحث، انصرافا إلى رتق بعض الفتق، واستدراك ما أراه نقصا في بعض جوانب العلوم الإسلامية؛ وهذا كلفني هو الآخر زمنا معتبرا من عمر البحث.
ورغم ما يُحدثه ذلك من شرود عن صميم البحث وصُلبه، إلا أني أحسب هذا العمل من حسنات البحوث الأكاديمية التي تُلزم- أو ينبغي أن تُلزم- الباحث إلزاما بمعالجة الاختلالات وسد بعض الثُّغْرات التي تبقى - إن لم يتم تداركها- ملازمة للمرء طول عمره، ولا يشفع له نيله للشهادة!
وأختم فقرة الصعوبات هذه بالإشارة إلى أن تتبع آراء المالكية المجددين مما له صلة بالمقاصد عموما، ومقاصد المكلف تحديدا، أمر يُتعب حقا، ولم أجْنِ من وراء تتبع الجزئيات الفقهية في الموضوع كبير فائدة!خصوصا وأني معنيٌّ - انسجاما مع عنوان البحث - ببيان أثر مراعاة الاجتهاد المقاصدي بشكل عام، وقصد المكلف بشكل خاص في استنباط الأحكام وتنزيلها، وهذا أمر احتاج مني إلى جهد، أحمد الله عز وجل أن منحنيه، وصرف من الموانع وذلل من الصعاب ما لو وُكِل فيه المرء إلى نفسه لضاقت به السبل، وتشعبت به الطرق؛ فلله الحمد من قبل ومن بعد.
لذلك وجهت وِجهتي إلى من عُني بتحرير القواعد والكليات الجامعة، وهو أبو إسحاق الشاطبي، واضطررت إلى تتبع ما كتبه حول قصد المكلف مما ضمنه القسم الثاني من كتاب المقاصد الذي خصصه لهذا الغرض.
ولما كان أبو إسحاق قد كتب موافقاته لمن كان ريانَ من علم الشريعة، فقد أدركت فعلا وأحسست بأن طالب العلم مثلي سيرهقه كتاب جهبذ وضعه للخاصة ممن خَبَر الشريعة ودرس ومارس أحكامها، وضبط تفاصيلها، لكن عزائي كان دائما-كلما اصطدمت بعقبة كأداء- التأسي بقول من قال بأن: "صحبة الفحول تفَحِّل".
خلاصات البحث وآفاقه.
1- خلاصات البحث:
إذا كان لابد من خاتمة تكِرُّ بالإجمال على ما ورد في ثنايا البحث من تفاصيل وجزئيات؛ فإني أُجمل ذلك في بضع خلاصات لا تُغني عن الرجوع إلى متن الدراسة وصُلبها.
1- لَمّا لم تنص الشريعة الإسلامية- تنصيصا مباشرا- على حكم كل جزئية على حدتها، ولما كانت وقائع الوجود غير منحصرة؛ ولا بد من تأطيرها بأحكام الشرع؛ فإنه لامناص من إعمال دليل كلي أطبق المسلمون على حجيته؛ وهو دليل الاجتهاد، وحيث إنه أنماط وأشكال! فإن الأقدر منها على إثبات صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وتأكيد قيّومية الشريعة الإسلامية وهيمنتها على ما عداها من النظم والقوانين الوضعية؛ هو الاجتهاد المقاصدي بما يعنيه من اعتداد بالمقاصد والتفات إليها أثناء عملية الاستنباط الفقهي للأحكام من مداركها، وأثناء تنزيلها على واقع المكلفين؛ مهما تغيرت ظروفهم وأحوالهم وعوائدهم.
2- لَمّا كانت المقاصد تعني الغايات التي ترمي إليها الشريعة لتحقيق مصالح العباد في الدارين؛ فإن العلماء الراسخين والجهابذة المحققين- ومن برّز منهم في علم المقاصد خاصة- لم يقتصر نظرهم على إعمال المنهج المقاصدي في فهم الشريعة واستنباط الأحكام منها، وتقرير أغراضها؛ بل امتد هذا النظر إلى بواعث من أنيط بهم تطبيق تلك الأحكام؛ وهم المكلفون.
3- مراعاة مقاصد المكلفين وإعمال التهم المعتبرة؛ هو فرع عن الاعتداد بالمقاصد، وتفسير النصوص تفسيرا مصلحيا ينسجم مع مقررات الوحي الكريم، ويخضع للقواعد الشرعية المستخرجة باستقراء نصوصه.
4- إن المذهب المالكي يُعتبر أبرز الاتجاهات الفقهية إعمالا لمقاصد المكلفين، وبناء الأحكام على التهم المعتبرة؛ ولذلك لم يقتصر النظر الفقهي المستصحب لأصول الاجتهاد المالكية على النظر إلى أشكال الأفعال وظوهر التصرفات، بل التفت إلى المقاصد والنيات.
ومن ثمّ اتسع نظر مالك والمنتسبين إلى مذهبه!ونفذ بصرهم إلى المكلفين، وهم المعنيون بتنزيل تلك الأحكام وتطبيق مقتضياتها، وإجراء تصرفاتهم على وَفق أغراضها ومعانيها، فراعوْا مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، ولم يقتصروا على مجرد النظر إلى الظواهر والأشكال من الأقوال والأفعال.
وإذا لم تكن وسيلة إثبات الباعث على التصرف مصرحا بها؛ فإن للأمارات، وقرائن الأحوال المحتفة بالفعل حجية للكشف عن المقصد، والباعث المضمر. ويتعين- من ثم- بناء الحكم عليها، وتنزيلُه وفق دلائلها.
فكم من قول أو تصرف يبدو للناظر حسنا موافقا لأحكام الشريعة؛ لكن صاحبه يُضمر نية سيئة ومقصدا فاسدا؛ وبناء على قواعد الشاطبي المقصدية؛ فإن هذا يأتي على أصل الحكم- الذي روعي في استنباطه قبل تنزيله من قِبلِ المكلف تحقيقُ المصلحة التي هي مقصد الشارع الحكيم- بالبطلان عند التنزيل والإعمال. والسبب هو سوء القصد وفساد الباعث.
5-إن علماء المقاصد - والمالكية منهم على وجه التحديد - بقدر ما اعتنوا بمقاصد الشارع، وأكدوا على ضرورة مراعاتها لاستنباط الأحكام وحسن تنزيلها، فقد اعتنوا أيضا بمقاصد المكلف؛ إذ النظر إلى الأفعال والتصرفات الظاهرة دون التفات إلى المقاصد والنيات، لئن كان هو الأصل في التعامل مع أفعال المكلفين، فإنه عندما تظهر الأمارات والقرائن الدالة على فساد قصد المكلف، يُصار إلى العدول عن حكم الأصل واللجوء رأسا إلى اعتبار هذا القصد الفاسد؛ لأن قصد الشارع الذي روعي في استنباط الحكم سيُهدر ويتخلف إذا كان المكلف المعني بتنزيل هذا الحكم وتطبيقه فاسد القصد؛ ومن ثم كانت مراعاة القصدين معا: قصد الشارع وقصد المكلف أمرا لازما لئلا تنفصم عرى الشريعة وينفرط عقدها المنظوم بإحكام. أوَ ليستْ تنزيلا من حكيم حميد، عالم بمن خلق وهو اللطيف الخبير؟!
6- إن مراعاة مقاصد المكلفين تضمن لنا حماية مقتضيات الأحكام من الإهدار والتلاعب؛ بما يُفضي إلى تحقيق المصالح الشرعية التي تمثل الغاية من تشريع الأحكام؛ فعندما يقصد الشارع الحكيم مقاصد معينة من تشريع الأحكام؛ فلا بد من مراعاتها، وإذا( تسلَّم ) المكلف هذه الأحكام ولم يُراع مقاصده من تصرفاته- التي ينبغي أن تكون صحيحة لا فاسدة- حتى تتطابق مع مقاصد الشارع من تشريعه؛ فإن هذا سينأى بالأحكام عن تحقيق مقاصدها، ولذلك كان النظر الفقهي الحصيف يقتضي القضاء ببطلان التصرفات المناقضة لقصد الشارع، حتى وإن (سلِمتْ) ظواهرها؛ لما سيؤول إليه إمضاء تلك الأفعال من مفاسد جاء الشارع الحكيم بنقيضها، إذ المقرر أن جماع ما تسعى إليه الأحكام هو تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل معا.
7- إن الغاية من الاستنباط الفقهي هو أن تتهيأ للأحكام الشرعية الإجراءات التنفيذية، وتصير فيها القابلية للتطبيق والإعمال فتتنزل على الواقع بما يُحقق مقاصدها. ولا سبيل إلى تحقيق هذه المقاصد والغايات التشريعية إلا بحسم مادة الحيل، وسد أبواب التلاعب بالتكاليف الشرعية؛ ضمانا للتطابق بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. هذه المطابقة التي ينبغي أن تستمر حاصلة عند التنزيل والتنفيذ للأحكام، لا أن يكون التأسيس لها من خلال البناء المُحكم لنظرية المقاصد، وتنخرم عند التنزيل بالتحيّل وفساد القصود.
8- إن ما سُقته من أمثلة- في الشق التطبيقي- قصدتُ منه إبراز وعي الصحابة رضوان الله عليهم، والأئمة الراسخين في العلم من بعدهم بقضية التعليل، وهي قضية جوهرية من الخطورة والحساسية بمكان؛ لأنها تمثل قطب الرحى في العملية الاجتهادية، وهي مزلَّة أقدام كثيرين؛ لأن ضبط العلل، وإحكام تحديدها، وبعد ذلك إدارة النصوص عليها؛ لا يَقْدر عليه إلاَّ مَن ملك ناصية العلوم الشرعية، وخبَر دقائقها، وكان ريانا منها - على حد تعبير الجويني والشاطبي - وكما أن إهمال التعليل وإنكارَه بإطلاق، مُوقِع في الحرج الشديد، ومفْضٍ إلى المهالك، فإن اقتحام هذا الحمى مع "قلة الزاد"، مُلقٍ في مهاوٍ سحيقة من الانحلال، والتفلُّت من الضوابط الشرعية، ومن ربقة العبودية لله، وبئس المآل.
9- إن ما قمتُ به من جرد للقواعد المقصدية، وما بحثتُه في أصل المآل بقواعده المتفرعة عنه؛ ويهمني منها: الذرائع، والحيل، وتحقيق المناط الخاص، إضافة إلى فقه الواقع، وفقه التنزيل، ومباحث الضرورة، والحاجة، ومراعاة مقاصد المكلفين؛ وكلها موضوعات يرتبط بعضها ببعض؛ لأنها من مرتكزات الاجتهاد المقاصدي، ولها صلة وثيقة بالاستنباط الفقهي للأحكام من مداركها، وبتنزيلها على واقع الحياة المتجدد باستمرار؛ كل ذلك كان الغرض منه توظيف تلك المباحث، واستثمارها في استنباط حكم بعض التطبيقات الفقهية؛ ومنها: الانخراط والمشاركة في تدبير الشأن العام في ظل الأوضاع الفاسدة- وهو من قضايا السياسة الشرعية- وفي استنباط حكم (الرهن) بصورته المعاصرة، وحكم المال المستفاد، هل يُزكَّى فور استفادته؛ إذا كان بالغا النصاب، أم لابد من دوران الحول عليه؟ وحكم القروض المصرفية لأجل السكن، هل المُلجئ إليها هو الضرورة أم الحاجة؟ وإذا كانت الحاجة هي المُلجئ، فهل تُنزَّل منزلة الضرورة بإطلاق، أم أن ذلك تحكمه معايير خاصة، وضوابط مرعية؟ إضافة إلى ما تناولْتُه في نازلة البيع الآجل الذي يتم بموجبه الأداء عن طريق الوسيط البنكي الذي يتولى اقتطاع الأقساط من المشتري في مقابل ربح (مصاريف الملف)!.
10- إذا تقرر أن الأحكام السياسية تأتي في المرتبة التشريعية الثالثة من حيث قصدُ الشارع إليها؛ أي أن الشارع قصد عدم التنصيص المباشر والمفصل على هذه الأحكام؛ في الكتاب والسنة؛ فإن للاجتهاد فيها مساغا، ومجالا واسعا؛ ولذلك كان لزاما على العلماء وفقهاء القانون الاهتمام بالسياسة الشرعية، وتأطير اجتهاداتهم بمقاصد الشريعة الغراء، وأصول الإسلام وقواعده الكلية، لا بمقاصد النفس الأمّارة بالسوء، فكل ما كان خادما لهذه المقاصد من الوسائل، يُعطى له حكم تلك الغايات؛ عملا بقاعدة" للوسائل حكم المقاصد "
11- كثير من العقود بطلت عند المالكية ولم تصح- مع سلامة ظاهرها- كنكاح التحليل، وطلاق المريض مرض الموت، وبيوع الذرائع الربوية؛ بناء على مراعاة مقاصد المكلفين والاعتداد ببواعثهم من تصرفاتهم. وإن شئت القول: هذا المنع إنما انبنى على مراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، وتم المصير إليه اعتبارا للمآل، وسعيا لتحقيق قصد الشارع من إبرام العقود؛ وهذا يستلزم -بالضرورة- من المفتي والقاضي النظر إلى ملابسات التنزيل، وما يُحيط بالتصرفات من قرائن، وأمارات، وشواهد حال. ويستلزم من المكلف نفسه العمل على تصحيح نواياه وبواعثه ومقاصده من تصرفاته؛ حتى تتوافق مع مقاصد الشارع الحكيم.
12-كل ما أتى على أصل من أصول الشريعة بالإبطال، أو أدى إلى هدم مقصد من مقاصدها بضروب من الحيل فهو ممنوع، موردٌ صاحبه المهالك.
13- رجحان قول المالكية والحنابلة بعدم تصحيح العقود والتصرفات التي لم تسلم بواعث أصحابها؛ بماظهر من القرائن والأمارات وشواهد الحال الدالة على سوء القصود والبواعث، وفساد النواياه.
14- فقه المالكية فقه عملي؛ ولذلك عنيَ بملابسات التنزيل. والأصولُ المعتمدة لهذا الفقه؛ ومنها اعتبار المآل، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، ومراعاة مقاصد المكلفين، والعرف، والاستحسان...إنما هي فرع عن أصل كبير مستوعب وجامع، ودائرةٌ في فلكه، وهو الاجتهاد المقاصدي الذي أمّه الراسخون في العلم، وأناخوا عيرهم، وحطوا رحالهم عنده؛ فأداروا النصوص على مقتضياته.
2- آفاق البحث
وأختم ببعض آفاق البحث لأقول بأن على الخبراء في المجالات الفقهية والأصولية والمقاصدية تعميق البحث في:
1- طرق الكشف عن المقاصد؛ أعني مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، بمزيد من الاستقراء والتتبع للنصوص الشرعية، واجتهادات العلماء الراسخين.
2- ضوابط تعليل الأحكام، وتقصيد النصوص؛ لمعرفة متى يكون الظاهر هو المقصود، ومتى يكون الغرض والمعنى هو المقصود، وهذا يتطلب التدقيق في كشف المقصود أولا.
3- فقه التنزيل، بما يعنيه ذلك من تكييف للنصوص والاجتهادات، بما يُحقق أغراضها، ويُمكِّن لمعانيها في الواقع، وهذا يتطلب تجاوز مرحلة الاستنباط المجرد للأحكام من النصوص بغض النظر عن إمكانية تطبيقها. والوصول إلى مرحلة الصياغة لتلك الأحكام بما يُمهد السبيل إلى انسيابها في الواقع بما يحقق مقاصدها ويؤدي إلى سعادة الدارين؛ إذا خلصت النيات، وتوفرت الإرادات لترسيمها، وإعمالها، وبهذا يكون لقاعدة" صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان" معنى عمليا إجرائيا.
4- العكوف على تراث محقق المالكية ومجددها؛ النظار أبو إسحاق الشاطبي؛ لاستخراج درره الغوال، واعتمادها سندا قويا لإنضاج الفقه بأنواعه، بما يُمهد لإعمال مقتضيات النصوص؛ إعمالا سليما بعيدا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
كانت هذه أهم نتائج البحث وخلاصاته وآفاقه. ولا أدعي بأني أحطتُ خُبرا بتفاصيل الموضوع، ولا سلكتُ كل شِعابه، ولا أني مصيبٌ في جميع ما انتهيتُ إليه من تقريرات وأحكام.
وحسبي أني مهدتُ السبيل لذوي الهمم العالية، وأولي الالباب من الباحثين والدارسين والعلماء العدول الحاملين لأمانة العلم؛ عسى أن نستهدي بفهومهم، ونسترشد بدقة نظرهم.
فإن أصبتُ فبتوفيق من الباري جلت قدرته، وإن أخطأت فمن تقصيري، وقلة زادي، وضعفي باعتباري بشرا. وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.
(ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا)[27]، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[28].
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المُرسَل رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار.
وكان الفراغ من تبييضه سحر يوم الثلاثاء 23 رمضان المبارك لسنة 1432هـ، الموافق ل: 24غشت 2011م.
[1]- منهج الدرس الدلالي عند الشاطبي، ص: 489 .
[2]- نحو تفعيل مقاصد الشريعة،ص: 138.
[3]- الموافقات، 2/251.
[4]- رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، رقم الحديث: (1901)، والحديث بلفظه: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)، صحيح البخاري، 1/586. وساقه في كتاب الإيمان، رقم: (29)، ج1/18 بالصيغة التي ذكره بها ابن عبد البر. وقد ورد بصيغ أخرى في الصحيح، فضلا عن كتب السنن والمسانيد.
[5]- التمهيد، 7/106؟
[6]- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص: 194؟
[7]- بيان الدليل على بطلان التحليل: ص: 85، إعلام الموقعين: 4/499 والموافقات: 3 /7 .
[8]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 7.
[9]- شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا، القاعدة الثانية، ص: 55.
[10]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 9.
[11]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 9.
[12]- سيأتي في ثنايا البحث دوافع اختيار الشاطبي من بين مجددي المالكية، و مزيد من شهادات العلماء فيه، في المبحث الثاني من الفصل الثاني ضمن الباب الثالث.
[13]- الموافقات، 4/94.
[14]- نفسه.
[15]- نفسه، 2/246.
[16]- نفسه، 2/246.
[17]- نفسه.
[18]- الموافقات، 2/251.
[19]- الذخيرة: 10/109، والفروق : 4/7 للإمام القرافي.
[20]- الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 189. المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا : 2/1014، شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا، ص: 471
[21]- البعد المقاصدي لمراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، قضايا ونماذج، بحث غير منشور، ص: 6.
[22]- أنظر المجلد العاشر من المعيار المعرب، ص: 206 وما بعدها، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
[23]- مقدمة ابن خلدون، 1/11.
[24]- فيض القدير، 1/39.
[25]- نقل هذا الكلام عن كشف الظنون صاحب كتاب مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص: 16، ونسبه إلى القاضي الفاضل البيساني في رسالة أرسلها إلى عماد الدين الأصفهاني. وأحسب أن الدكتور مصطفى شلبي قد وهِمَ حين نسب الكلام ذاته إلى عماد الدين الأصفهاني، فقال: "قال العماد الأصفهاني: (...) وذكر ذات النقل دون أن يوثقه ولا أن يحيله على مصدره".أنظر الصفحة الأخيرة من كتابه:" تعليل الأحكام"
[26]- مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، مقدمة المؤلف، ص: 20.
[27]- سورة الكهف، الآية:10
[28]- سورة البقرة، الآية:119.
آخر تحديث (الاثنين, 29 أكتوبر 2012 17:26)
المشرف: الدكتور أحمد علوي أمحرزي
أعضاء لجنة المناقشة والتقويم:الدكتورة أمينة السعدي، الدكتور إسماعيل الحسني، الدكتور مصطفى الوضيفي، الدكتور عبد الكريم عكيوي.
فكرة البحث وخلاصته:
لا يخفى على الدارس للعلوم الإسلامية، أن مساحة الاجتهاد وإعمال النظر واسعة وكبيرة، وإنما قصَد الشارع الحكيم ذلك لحِكم بالغة، لعل أظهرها إيقاظ همم الناس وشحذ عقولهم ليتفاعلوا مع هذا الدين الخالد الخاتم، ضبطا لنصوصه وفهما لها، وتنزيلا لمقتضياتها على واقع المكلفين؛ بما يهدي إلى مقاصد هذه النصوص، ويحقق مراد الشارع من تشريعه.
من هذا المنطلق، لم يكن الاختلاف في وجهات نظر العلماء بشأن كثير من قضايا العلوم الإسلامية أمرا مستهجنا ولا معيبا طالما أن ثمة مبادئ للفهم وضوابط للعمل بنصوص الوحي الكريم، بل كان ولا يزال دليلا على ثراء منظومتنا الثقافية، وبرهانا على غنى تراث المسلمين العلمي عموما، والفقهي التشريعي على وجه الخصوص.
ولما كان الاختلاف في الفروع والجزئيات أمرا لا مناص منه، ولا غبار عليه، طالما أن الشرع يُسيغُه، وواقع المكلفين من حيث تفاوت أحوالهم وتباين قصودهم يقتضيه؛ فإن أنظار العلماء والمجتهدين بشأن كبريات القضايا وأمهات المسائل هو ما يحتاج معه المرء إلى البحث والتمحيص، حتى يتبين وجه الصواب، ويستبين سبيلَ الحق ليسلكه وهو مطمئن النفس، منشرح الصدر.
وأحسب أن من جملة القضايا المستأثرة بالاهتمام، المحتاجة إلى أولي الحِجى والألباب؛ قضية "مراعاة قصد المكلف" التي دعا غير واحد من الباحثين في المقاصد إلى ضرورة الاهتمام بها وبحث مسائلها، بالقدر الذي يُجلي حقيقتها، ويبرز مدى تعلق الأحكام بها. فقد أشار الدكتور عبد الحميد العلمي إلى ضرورة: (مضاعفة الاهتمام بمقاصد المكلفين والعمل على تقصي أحوالها، ومعرفة ما يعتريها من ضروب الثبات والتغيير، والتفرد والتعدد والاختيار والاضطرار، مع العمل على إيجاد قانون يضبط علاقاتها ويميز بين أولها وثانيها، وبين صور التطابق والتدافع فيها، والعمل على بحث أوجه التقابل بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، وذلك بتعيين مسالكها وبيان أحوال المطابقة والمناقضة فيها)[1]. أما الدكتور جمال عطية فقد ألمح بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة الاهتمام بمقاصد المكلف، فبعد أن أورد كلام الغزالي عن المصلحة وتعريفه لها قال معقبا: (ولعل هذه الفكرة هي أصل اهتمام الشاطبي بمقاصد المكلفين، ولكنه توسع فيها من ثلاثة سطور لدى الغزالي إلى تسعين صفحة تدور حول فكرة أن المطلوب من المكلف موافقة قصده لقصد الشارع مضمنا ذلك ما يتعلق بالنية والحيل وغير ذلك)[2].
وإذا كان الشاطبي قد حاز قصب السبق لا في لفت الانتباه وتوجيه الأنظار إلى ضرورة مراعاة مقاصد المكلفين- إذ أنه مسبوق في ذلك بأئمة آخرين لعل أبرزهم الحافظ ابن عبد البر والجويني والعز بن عبد السلام، وتلميذه القرافي، والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم - بل في إحكام صياغة القواعد المتعلقة بها، وهو من هو في الخبرة بعلوم الشريعة ومقاصدها، فإن الأمر ما يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث، لأن المكلف هو من سيمارس التكليف، ومن سيسعى إلى تنزيل الأحكام، ولأن (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة)[3].
وحيث إن القول بمراعاة قصد المكلف، وبناء الأحكام على ذلك أمر غير مسلَّم، وغير واضح، وغير معمول به عند كافة العلماء والمجتهدين بنفس الدرجة والقوة، بحجة أن القصد أمر باطن وغير منضبط! ومن ثم كان التعويل على الظاهر هو الأصل الذي لا ينبغي تجاوزه، والملاذ الذي ينبغي الركون إليه حتى لا تنبني الأحكام إلا على المسوغات الشرعية المحقَّقة والمتيقَّنة، ولا تُبنى على التخمينات والظنون! فإن الناظر إلى نصوص الوحي الكريم، يلحظ بجلاء أنها عُنيت بإصلاح البواطن قبل الظواهر، والسرائر قبل الأشكال والمظاهر، وهذا الأمر إن كان لا غبار عليه فيما يتعلق بالقربات والطاعات التي يقوم بها المكلف الفرد في علاقته بالله عز وجل، أي أن شرط الإخلاص لا بد من تحققه وإلا حبط العمل وكان سيء القصد من الخاسرين. قال ابن عبد البر - رحمه الله- تعليقا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[4]: ( قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث" إيمانا واحتسابا" دليل على أن الأعمال الصالحة إنما يقع بها غفران الذنوب وتكفير السيئات مع صدق النيات، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لسعد: " لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت فيها" ومحال أن يزكو من الأعمال شيء لايراد به الله تعالى)[5]؟ وقال ابن رشد الحفيد: (اتفق العلماء على كونها- أي النية - شرطا في صحة الصلاة، لكون الصلاة هي رأس العبادات)[6]؟
إذا كان الأمر كذلك فيما له صلة بالقربات والعبادات المحضة، فهل ما يتعلق بالأحكام المرتبطة بتصرفات ومعاملات المكلفين فيما بينهم مما له صلة بالأمور الدنيوية هو الآخر يحتاج من الفقيه المفتي أو القاضي أو المكلف نفسه إلى استصحاب الباعث والقصد، حتى تتحقق مقاصد الأحكام؟
إن من المقرر عند المحققين من أهل العلم أن: (المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات)[7]. يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: (من يطالع الكتاب الكريم وسنة المصطفى المختار بتدبر وتأمل يعلم أن الدين الإسلامي عني بإصلاح مقاصد المكلفين ونياتهم عناية تفوق اهتمامه بأي مسألة أخرى، ذلك أن الأعمال تصبح مظاهر جوفاء، وصورا صماء إذا خلت من المقاصد الحقة)[8].
إن كل تصرف يقْدم عليه المكلف، وكل عمل يباشره، له مقصد وغاية يرمي إلى تحقيقها، وهذه التصرفات وإن كانت في ظاهرها سليمة لا غبار عليها (بمعنى توفر فيها شرط الصواب) فالعبرة ليست بالظاهر والشكل فقط؛ إذ قد يضمر المكلف بواعث، ويخفي مقاصد لو أعلنها ابتداء لأثرت في الحكم على التصرف وعلى العقد، عملا بالقاعدة المشهورة: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني)[9]، والقاعدة الأخرى (القصود معتبرة في العبادات والتصرفات)[10].
فعقد الزواج مثلا هو ميثاق ترابط وتعاقد شرعي بين رجل وامرأة غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين، كما يعرفه الفقهاء والقانونيون، فإبرام العقد بهذا القصد هو قربة من القربات، وطاعة من الطاعات، لكن إذا كان القصد منه الإضرار بالزوجة، وابتزاز مالها، وإساءة عشرتها، أو تحليلها لمطلقها، فإن إبرام هذا العقد ينتقل من كونه قربة إلى كونه مجلبة للإثم.
والغاية مثلا من عقد البيع: رغبة المشتري في تملك المبيع، ورغبة البائع في تملك الثمن، فالصورة الظاهرية لعقد البيع لا غبار عليها، لكن مقاصد المتبايعيْن وبواعثهما قد تكون سيئة بحيث لو اطُّلع عليها ابتداء بأمارات وقرائن دالة؛ لأثرت في حكم إبرام هذا العقد، كأن يكون مشتري المحل يتغيى اتخاذه وكرا للقمار أو البغاء أو بيع الخمر... ولذلك كان لزاما على القاضي والفقيه التثبت، وإيلاء مقاصد المكلفين وبواعثهم ما تستحق من العناية قبل تقرير الحكم؛ لأن المقاصد كما يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر، تتوجه إلى أمرين دائما:
- (الأول: الفعل الذي تريد تحقيقه وإحرازه.
- الثاني: الغاية البعيدة التي يريدها القاصد من وراء عمله، فالإنسان لا ينطلق إلى العمل ما لم يلمح فيه ما يدعوه إلى فعله)[11].
ولما كان من بين أصول المالكية المعتبرة، مراعاة مقاصد المكلفين؛ فإن التحقيق في هذا الأمر، وبيان بعض تطبيقاته، وآثار ذلك على الاستنباط الفقهي، والتنزيل للأحكام على الواقع، هو ما درأني للبحث في الاجتهاد المقاصدي وما يدور في فلكه، ويتعلق به من مسائل، خاصة ما له صلة بمراعاة مقاصد المكلفين وبواعثهم ومآلات أفعالهم، وبناء الأحكام على الظنون الغالبة إذا ظهرت القرائن، ولاحت الأمارات؛ لما لهذه المراعاة من أثر جلي في استمداد الأحكام من مداركها أولا، وإعمالها في الواقع.
وإنما حاولت مقاربة الموضوع بالتركيز على مجددي المالكية عموما، وعلى عَلَم من أعلامهم المبرزين خصوصا، وهو العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي، لما لحظته ولاحظه غيري من رسوخ في العلم، وقوة في الحجة وعناية خاصة ومركّزة بتحرير القواعد المتعلقة بالمقاصد بقسميها: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف عند هذا الجهبذ الذي أطبق العلماء والباحثون على انطباق وصف المجتهد عليه، واستحقاقه للقب المجدد[12]
أوَ لم يقل- رحمه الله - بأنه يجب (أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا وقولا وعملا)[13]. وأن (فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه)[14]؟
إنما الأعمال بالنيات:
إذا كانت (الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات)[15]. وكان (العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون)[16]. وكانت (الأدلة على هذا المعنى لا تنحصر)[17]؛ فإن مراعاة مقاصد المكلفين واعتبار مآلات أفعالهم، وبناء الأحكام على المظنات الغالبة إذا دلت القرائن المُنبئة عن سوء القصد وفساد النية؛ له ما يسوغه في الشرع؛ إذ من القواعد المعتبرة (أن المطلوب من المكلف ألا يقصد خلاف ما قصد الشارع)[18]. وأن المعاملة بنقيض القصد الفاسد من الأمور التي يشهد لها الشرع بالاعتبار.
وإنما يتأكد إعمال هذا المنهج الاجتهادي ويتحتم - مع ضرورة أخذ الحيطة والحذر من اتهام النوايا بلا براهين، والتعسف في إطلاق الأحكام الجزافية - عند فساد الذمم، وضعف التدين، وشيوع القصود الفاسدة والتصرفات المتحايلة على الأحكام بغرض التذرع والوصول إلى غير مقصود الشارع الحكيم.
إن كثيرا من الأحكام الشرعية بناها الفقهاء على مراعاة التهمة والالتفات إلى مقاصد المكلفين وبواعثهم، بل إنهم قعدوا قواعد تفيد هذا المعنى وتؤكده، من قبيل: (التهمة تقدح في التصرفات على الغير إجماعا)[19]. و(من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه)[20].
- البحوث السابقة في الموضوع:
من خلال ما تقدم يتبين أن موضوع هذا البحث متشعب المسالك، مترامي الأطراف، ولئن كان ينحو منحى البحوث المقاصدية فإن صلته بمباحث الفقه والأصول والنوازل والفكر الإسلامي تبدو وثيقة، لذلك كانت البحوث بهذا الشمول عزيزة الوجود؛ وهذا لا يعني أن أجزاء الموضوع لم تُبحث من قبلُ، أو لم يطرُقها علماؤنا القدامى وفرسان البحث المحدثون؛ غاية ما هنالك أن الربط بين هذه الأجزاء ودراسة علاقات التأثير والتأثر بين مراعاة المالكية لمقاصد المكلفين واستنباط الأحكام وأثر هذه المراعاة في تنزيل الأحكام على الواقع، وصلة كل ذلك بالاجتهاد المقاصدي هو ما تطلب مني قدرا معتبرا من الجهد والوقت.
ولقد وقفت على بحوث حديثة لها صلة ببعض أطراف الموضوع فضلا عما تناثر في مصنفات علمائنا الكبار، حاولت جهدي لمّ شتاتها، وضمّ أطرافها، وتنسيق موادها، واستخلاص الفوائد الخادمة لموضوع البحث.
ويمكنني في هذا الصدد الإشارة إلى بعض من تناول الموضوع وإن بشكل جزئي:
- العز بن عبد السلام (ت660هـ) عقد فصلا في كتابه الفريد" قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" لما يقدح في الظنون من التهم قصرها على مراتب التهمة في الشهادة، وسأبين في الفصل الثاني من الباب الأول وجه العلاقة الوطيدة بين مراعاة قصد المكلف ومراعاة التهمة في استنباط الأحكام الشرعية.
- ذكر الدكتور مصطفى القصاب أن أبا العباس أحمد بن محمد البويعقوبي المغربي المالكي عقد فصلا سماه" مسائل من التهمة على فسخ الدين بالدين " استخرجها من مدونة الإمام مالك" وضمّن ذلك رسالته: "التحرير بمسائل التصيير"[21].
- ابن تيمية (ت728هـ) ألف كتابا عنوانه " بيان الدليل على بطلان التحليل"، والكتاب وإن كان يتناول جزئية فقهية، غير أن المؤلف أطال النفَس في الحديث عن الحيل ومقاصد المكلفين.
- ابن القيم (ت751هـ) سلك مسلك شيخه وأفاض في الحديث عن الحيل والذرائع في مؤلَّفه النفيس "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ولا تخفى صلة ذلك بمقاصد المكلفين.
- الشاطبي (ت 790هـ) في القسم الثاني من كتاب المقاصد تحدث في اثنتي عشرة مسألة عن مقاصد المكلف، وحرر قواعده بشكل غير مسبوق، وسأعْرض مادة هذا القسم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الثالث، لأبرز من خلال هذا العرض النظرة التجديدية لهذا الإمام المجتهد والمنتسب مذهبيا إلى المالكية، مع بيان آثار قواعده المتعلقة بقصد المكلف على الاستنباط والتنزيل للأحكام الشرعية.
- ابن فرحون المالكي (ت799هـ) خصص بابا من خمس عشرة مسألة في " القضاء بالاتهام وأيمان التهمة " تحدث فيها عن الإقرار والشهادة، وذلك في الباب الثامن والعشرين من "تبصرته".
- أبو العباس الونشريسي تحدث في " المعيار المعرب..." عن "مظان التهم القادحة في الشهادة" في سياق تناوله لنوازل الشهادات[22].
وأما عند المحدثين فقد وجدت بعض أجزاء الموضوع مُتناولة في البحوث الآتية:
- أثر القصود في التصرفات والعقود للدكتور عبد الكريم زيدان، وهو رسالة صغيرة (26 صفحة من القطع الصغير).
- مقاصد المكلفين في ما يُتعبد به لرب العالمين، للدكتور عمر سليمان الأشقر.
- الفكر المقاصدي عند الإمام مالك وعلاقته بالمناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني الهجري، للدكتور منصف العسري.
- مقاصد المكلفين عند الأصوليين للدكتور فيصل بن عبد العزيز الحليبي.
- المقاصد في المذهب المالكي خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، للدكتور نور الدين الخادمي.
- مقاصد الشريعة عند الإمام مالك للدكتور أحمد القياتي.
- البعد المقاصدي لمراعاة التهمة للدكتور مصطفى القصاب (رسالة دكتوراه غير مطبوعة، نوقشت في يونيو2010، بكلية الآداب، بمكناس/ المغرب).
ولابد من الإشارة إلى أن هذه البحوث لم تتمحض للحديث عن مقاصد المكلف، ولا عن آثار مراعاتها على الاستنباط والتنزيل للأحكام، ولم تُعن ببيان ولا بحجم حضور هذا الأصل الاجتهادي عند المالكية.
فقد استأثرت مقاصد الشارع بالاهتمام في بعضها، و حظي مبحث النيات والإخلاص بالعناية في بعضها، وشغل إبراز المنحى المقاصدي عموما في اجتهادات المالكية حيزا معتبرا في بعضها الآخر؛ غير أن بحث الدكتور مصطفى القصاب في حيز معتبر منه، وإن كان أقرب هذه البحوث إلى الموضوع الذي أبحثه، إلا أنه جاء على نمط كتب الخلاف العالي، أو الفقه المقارن، فكان الباحث يورد الأقوال ويناقشها، ويستخلص منها ما يخدم موضوعه، ويبرز البعد المقاصدي لمراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، ولم تتقيد الدراسة بمذهب بعينه.
لذلك ارتأيت أن أدلي بدلوي، وأساهم بحسب وسعي في إنضاج هذا الموضوع، وأسلك هذا المسلك الوعر، مستعينا بالواحد الأحد ومتوكلا عليه سبحانه، متمنيا أن يتمهد السبيل لذوي الهمم العالية والأقدام الراسخة في العلم لإثراء الموضوع وإغنائه.
خاتمة:
وبعد،
فها قد وفيتُ بما وعدت في مقدمة البحث بإنجازه! وبعد هذا الجهد الذي أرجو ثواب بذله من الله العلي القدير؛ أحس بأني في بداية الولوج إلى رحاب العلوم الإسلامية الممتدة الأطراف، المتسعة الأرجاء، المتشعبة المسالك.
ولكم صادفتُ من عقبات كأداء، ومنعرجات مربكة للمسير مثبطة للخطى؛ منها ما يتصل بمجال البحث العلمي الصرف، ومنها ما له صلة بظروف الحياة وانشغالاتها (اللامتناهية)! ولولا قدْر من الصبر والمثابرة بتوفيق من الباري جلّت قدرته لما استطاع المرء المضي قُدما في مسيرة البحث والاطلاع، وسط بحر لُجّي من المعوقات المُبعدة عن أجواء الطلب والتحصيل، في زمن صارت قضايا البحث العلمي الرصين، وهموم المدارسة الجادة، لا تستأثر إلا بفضول الأوقات، وضعيف الاهتمام؛ حتى من قِبل "النخبة"، ممن يُتوسم فيهم الحرص على حمل العلم وحفظ ميراث النبوة. وأختم هذه الفقرة بالتأكيد على أني بذلت في لمّ شتات البحث غاية الجهد، واستفرغت طاقتي ووسعي لبحث مسائله، ومع ذلك أحس بأني لم أمسك بعد بناصية الموضوع، ولم أتحكم فيه التحكم الذي كنت أرتضيه، وإني عاقد العزم على مواصلة البحث والاطلاع ما وسعني الجهد، وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.
ولا يسعني إلا أن أستعير ما قاله ابن خلدون في مقدمته: (أنا (...) راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الغضاء، في النظر بعين الانتقاد، لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف- من اللوم - منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة)[23].
وما أحسن ما نقله المناوي في خاتمة شرحه لمقدمة كتاب الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير عن ابن الكمال، قال: (ولما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما تباشره أبدانها من الأعمال، فكل عمل بنية صادقة رحمانية عن هيئة نورانية؛ صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل عمل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة غاسقة ظلمانية صحبه محق وشؤم وتفرقة)[24].
إن من طبيعة البحوث ألا ينتهي منها أصحابها إلا إذا حان موعد إيداعها وتقديمها لانتظار مناقشتها؛ وإلا فما دامت بيد صاحبها فلن ينتهي من التهذيب والتنقيح والزيادة والنقصان، وما أجود ما قاله القاضي الفاضل البيساني في رسالة أرسلها إلى عماد الدين الأصفهاني: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يوم إلا قال في غده، أو بعد غده: لو غُير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل؛ وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر)[25].
ولا يفوتني أن أستعير ما قاله الشاعر:
وما أبرئ نفسي إنني بشر<<>>أسهو وأخطئ ما لم يحمني قدر
وما ترى عذرا أولى بذي زلل<<>>من أن يقول مقرا إنني بشر
وما قاله شاعرآخر:
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج<<>>مؤملا كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا<<>>فكم لرب الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعا<<>>فما على عرج في ذاك من حرج[26]
فكل عمل بشري إلا ويطبعه القصور والنقص، فسبحان من له الكمال المطلق، والمنزه عن كل قصور وخطأ. والحمد لله من قبلُ ومن بعد على واهب العطايا ومانح النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صعوبات البحث:
لا يكاد يخلو إنجاز أي بحث علمي من صعوبات تعترض الباحث وهو يلمّ شتات موضوعه، ويرتب أبوابه وفصوله ومباحثه، إذ المعاناة تصاحب الباحث وتلازمه منذ بداية التفكير في الموضوع إلى حين تذييله بمصادره ومراجعه.
هذا والباحث يزاول نشاطه البحثي في أنسب الظروف وأليق الأجواء، فكيف إذا لم يكن متفرغا لذلك، ولم يتيسر له الحصول على المصادر والمراجع الكافية والمساعدة إلا بعد جهد جهيد.
وإذا كان لابد من ذكر بعض الصعوبات التي واجهتني وأنا أشتغل على هذا الموضوع الممتد والمترامي الأطراف، والضارب بعمق في صميم أدق الفنون وأكثرها فائدة - على حد تعبير ولي الله الدهلوي- وهو علم المقاصد وما يرتبط به عضويا من فقه وأصول وتفسير ونوازل...؛ هوعدم التفرغ للبحث العلمي تفرغا يساعد على استثمار الوقت وترتيب الأفكار وجمع المعلومات وتوظيفها، بما يخدم موضوع البحث ويُثريه.
فلا يخفى على مجرب أن مزاولة العمل المهني - خاصة التدريس - وما يتطلبه من التزام وتحضير ومتابعة وتقويم، ووفق جدول زمني لا يراعي البتة اهتمامات الباحث وانشغالاته؛ لممّا يجهض التطلعات، ويربك التخطيطات، ويحول دون إنجاز المأمول المرغوب فيه. فما أن يصفو الذهن، ويأنس الوجدان، ويتذوق حلاوة المضي قدما في اكتشاف الجديد ومعرفة المفيد، حتى تدخل على الخط هموم العمل المهني الوظيفي، وانشغالات الحياة اليومية فتكدر صفو أجواء البحث وتصرف الفكر عن الانشغال بقضاياه؛ وقد صدق من شبه العمل العلمي الأكاديمي بعمل عامل "الجبس" إذا شرد عن عجينه وخليطه لزمن قصير وجده قد يبس وتصلّب، ولن يطاوعه لتكييفه حسب الأشكال والقوالب التي يريد!
في بداية تسجيلي للبحث كنت أحسبني - بحكم الرغبة في التحصيل والطلب - وبقدر من المثابرة والمواظبة اليومية على المدارسة والمطالعة، قادرا على التحكم في الموضوع وضبط شعابه؛ غير أن ما حسبته هينا وجدته عند الممارسة عظيما؛ فلم أجد بُدّا من الصبر والمضي قدما في الاطلاع على كل ما له صلة بالموضوع من كتب قديمة وبحوث معاصرة؛ وقد كلفني ذلك زمنا غير يسير من عمر البحث ومدة إنجازه القانونية...
ولا يخفى على مزاول، أن الاسترسال في القراءة يورث نهما، ويغري بالبحث عن الجديد، مما قد يتيه بالمرء عن الوجهة التي هو موَلّيها، والموضوع المحدد الذي يتغيى الكتابة فيه؛ وما لم تتم المبادرة بالتقييد والتحرير فربما تمضي السنوات ولا يكاد يجد بين يديه شيئا مدونا محررا.
ولعل من حسنات البحوث الأكاديمية أنها تجعل الباحث وهو يراكم المعلومات، ويغني الرصيد المعرفي؛ يبقى فكره دائما منشغلا بما بين يديه من تقييدات تشكل المادة الخام، والأساس الذي سيبني عليه بحثه ودراسته.
ومن الصعوبات التي واجهتني أيضا، امتدادات الموضوع، وتشعب أرجائه، وشساعة أبعاده، وتنوع قضاياه، واتصال مباحثه بمجالات عدة من حقول المعرفة الإسلامية، بل بأدقها وأكثرها احتياجا إلى رصيد علمي معتبر. وهو الأمر الذي اضطُررت معه إلى التوقف عن الكتابة والتقييد لما له صلة مباشرة بالبحث، انصرافا إلى رتق بعض الفتق، واستدراك ما أراه نقصا في بعض جوانب العلوم الإسلامية؛ وهذا كلفني هو الآخر زمنا معتبرا من عمر البحث.
ورغم ما يُحدثه ذلك من شرود عن صميم البحث وصُلبه، إلا أني أحسب هذا العمل من حسنات البحوث الأكاديمية التي تُلزم- أو ينبغي أن تُلزم- الباحث إلزاما بمعالجة الاختلالات وسد بعض الثُّغْرات التي تبقى - إن لم يتم تداركها- ملازمة للمرء طول عمره، ولا يشفع له نيله للشهادة!
وأختم فقرة الصعوبات هذه بالإشارة إلى أن تتبع آراء المالكية المجددين مما له صلة بالمقاصد عموما، ومقاصد المكلف تحديدا، أمر يُتعب حقا، ولم أجْنِ من وراء تتبع الجزئيات الفقهية في الموضوع كبير فائدة!خصوصا وأني معنيٌّ - انسجاما مع عنوان البحث - ببيان أثر مراعاة الاجتهاد المقاصدي بشكل عام، وقصد المكلف بشكل خاص في استنباط الأحكام وتنزيلها، وهذا أمر احتاج مني إلى جهد، أحمد الله عز وجل أن منحنيه، وصرف من الموانع وذلل من الصعاب ما لو وُكِل فيه المرء إلى نفسه لضاقت به السبل، وتشعبت به الطرق؛ فلله الحمد من قبل ومن بعد.
لذلك وجهت وِجهتي إلى من عُني بتحرير القواعد والكليات الجامعة، وهو أبو إسحاق الشاطبي، واضطررت إلى تتبع ما كتبه حول قصد المكلف مما ضمنه القسم الثاني من كتاب المقاصد الذي خصصه لهذا الغرض.
ولما كان أبو إسحاق قد كتب موافقاته لمن كان ريانَ من علم الشريعة، فقد أدركت فعلا وأحسست بأن طالب العلم مثلي سيرهقه كتاب جهبذ وضعه للخاصة ممن خَبَر الشريعة ودرس ومارس أحكامها، وضبط تفاصيلها، لكن عزائي كان دائما-كلما اصطدمت بعقبة كأداء- التأسي بقول من قال بأن: "صحبة الفحول تفَحِّل".
خلاصات البحث وآفاقه.
1- خلاصات البحث:
إذا كان لابد من خاتمة تكِرُّ بالإجمال على ما ورد في ثنايا البحث من تفاصيل وجزئيات؛ فإني أُجمل ذلك في بضع خلاصات لا تُغني عن الرجوع إلى متن الدراسة وصُلبها.
1- لَمّا لم تنص الشريعة الإسلامية- تنصيصا مباشرا- على حكم كل جزئية على حدتها، ولما كانت وقائع الوجود غير منحصرة؛ ولا بد من تأطيرها بأحكام الشرع؛ فإنه لامناص من إعمال دليل كلي أطبق المسلمون على حجيته؛ وهو دليل الاجتهاد، وحيث إنه أنماط وأشكال! فإن الأقدر منها على إثبات صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وتأكيد قيّومية الشريعة الإسلامية وهيمنتها على ما عداها من النظم والقوانين الوضعية؛ هو الاجتهاد المقاصدي بما يعنيه من اعتداد بالمقاصد والتفات إليها أثناء عملية الاستنباط الفقهي للأحكام من مداركها، وأثناء تنزيلها على واقع المكلفين؛ مهما تغيرت ظروفهم وأحوالهم وعوائدهم.
2- لَمّا كانت المقاصد تعني الغايات التي ترمي إليها الشريعة لتحقيق مصالح العباد في الدارين؛ فإن العلماء الراسخين والجهابذة المحققين- ومن برّز منهم في علم المقاصد خاصة- لم يقتصر نظرهم على إعمال المنهج المقاصدي في فهم الشريعة واستنباط الأحكام منها، وتقرير أغراضها؛ بل امتد هذا النظر إلى بواعث من أنيط بهم تطبيق تلك الأحكام؛ وهم المكلفون.
3- مراعاة مقاصد المكلفين وإعمال التهم المعتبرة؛ هو فرع عن الاعتداد بالمقاصد، وتفسير النصوص تفسيرا مصلحيا ينسجم مع مقررات الوحي الكريم، ويخضع للقواعد الشرعية المستخرجة باستقراء نصوصه.
4- إن المذهب المالكي يُعتبر أبرز الاتجاهات الفقهية إعمالا لمقاصد المكلفين، وبناء الأحكام على التهم المعتبرة؛ ولذلك لم يقتصر النظر الفقهي المستصحب لأصول الاجتهاد المالكية على النظر إلى أشكال الأفعال وظوهر التصرفات، بل التفت إلى المقاصد والنيات.
ومن ثمّ اتسع نظر مالك والمنتسبين إلى مذهبه!ونفذ بصرهم إلى المكلفين، وهم المعنيون بتنزيل تلك الأحكام وتطبيق مقتضياتها، وإجراء تصرفاتهم على وَفق أغراضها ومعانيها، فراعوْا مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، ولم يقتصروا على مجرد النظر إلى الظواهر والأشكال من الأقوال والأفعال.
وإذا لم تكن وسيلة إثبات الباعث على التصرف مصرحا بها؛ فإن للأمارات، وقرائن الأحوال المحتفة بالفعل حجية للكشف عن المقصد، والباعث المضمر. ويتعين- من ثم- بناء الحكم عليها، وتنزيلُه وفق دلائلها.
فكم من قول أو تصرف يبدو للناظر حسنا موافقا لأحكام الشريعة؛ لكن صاحبه يُضمر نية سيئة ومقصدا فاسدا؛ وبناء على قواعد الشاطبي المقصدية؛ فإن هذا يأتي على أصل الحكم- الذي روعي في استنباطه قبل تنزيله من قِبلِ المكلف تحقيقُ المصلحة التي هي مقصد الشارع الحكيم- بالبطلان عند التنزيل والإعمال. والسبب هو سوء القصد وفساد الباعث.
5-إن علماء المقاصد - والمالكية منهم على وجه التحديد - بقدر ما اعتنوا بمقاصد الشارع، وأكدوا على ضرورة مراعاتها لاستنباط الأحكام وحسن تنزيلها، فقد اعتنوا أيضا بمقاصد المكلف؛ إذ النظر إلى الأفعال والتصرفات الظاهرة دون التفات إلى المقاصد والنيات، لئن كان هو الأصل في التعامل مع أفعال المكلفين، فإنه عندما تظهر الأمارات والقرائن الدالة على فساد قصد المكلف، يُصار إلى العدول عن حكم الأصل واللجوء رأسا إلى اعتبار هذا القصد الفاسد؛ لأن قصد الشارع الذي روعي في استنباط الحكم سيُهدر ويتخلف إذا كان المكلف المعني بتنزيل هذا الحكم وتطبيقه فاسد القصد؛ ومن ثم كانت مراعاة القصدين معا: قصد الشارع وقصد المكلف أمرا لازما لئلا تنفصم عرى الشريعة وينفرط عقدها المنظوم بإحكام. أوَ ليستْ تنزيلا من حكيم حميد، عالم بمن خلق وهو اللطيف الخبير؟!
6- إن مراعاة مقاصد المكلفين تضمن لنا حماية مقتضيات الأحكام من الإهدار والتلاعب؛ بما يُفضي إلى تحقيق المصالح الشرعية التي تمثل الغاية من تشريع الأحكام؛ فعندما يقصد الشارع الحكيم مقاصد معينة من تشريع الأحكام؛ فلا بد من مراعاتها، وإذا( تسلَّم ) المكلف هذه الأحكام ولم يُراع مقاصده من تصرفاته- التي ينبغي أن تكون صحيحة لا فاسدة- حتى تتطابق مع مقاصد الشارع من تشريعه؛ فإن هذا سينأى بالأحكام عن تحقيق مقاصدها، ولذلك كان النظر الفقهي الحصيف يقتضي القضاء ببطلان التصرفات المناقضة لقصد الشارع، حتى وإن (سلِمتْ) ظواهرها؛ لما سيؤول إليه إمضاء تلك الأفعال من مفاسد جاء الشارع الحكيم بنقيضها، إذ المقرر أن جماع ما تسعى إليه الأحكام هو تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل معا.
7- إن الغاية من الاستنباط الفقهي هو أن تتهيأ للأحكام الشرعية الإجراءات التنفيذية، وتصير فيها القابلية للتطبيق والإعمال فتتنزل على الواقع بما يُحقق مقاصدها. ولا سبيل إلى تحقيق هذه المقاصد والغايات التشريعية إلا بحسم مادة الحيل، وسد أبواب التلاعب بالتكاليف الشرعية؛ ضمانا للتطابق بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. هذه المطابقة التي ينبغي أن تستمر حاصلة عند التنزيل والتنفيذ للأحكام، لا أن يكون التأسيس لها من خلال البناء المُحكم لنظرية المقاصد، وتنخرم عند التنزيل بالتحيّل وفساد القصود.
8- إن ما سُقته من أمثلة- في الشق التطبيقي- قصدتُ منه إبراز وعي الصحابة رضوان الله عليهم، والأئمة الراسخين في العلم من بعدهم بقضية التعليل، وهي قضية جوهرية من الخطورة والحساسية بمكان؛ لأنها تمثل قطب الرحى في العملية الاجتهادية، وهي مزلَّة أقدام كثيرين؛ لأن ضبط العلل، وإحكام تحديدها، وبعد ذلك إدارة النصوص عليها؛ لا يَقْدر عليه إلاَّ مَن ملك ناصية العلوم الشرعية، وخبَر دقائقها، وكان ريانا منها - على حد تعبير الجويني والشاطبي - وكما أن إهمال التعليل وإنكارَه بإطلاق، مُوقِع في الحرج الشديد، ومفْضٍ إلى المهالك، فإن اقتحام هذا الحمى مع "قلة الزاد"، مُلقٍ في مهاوٍ سحيقة من الانحلال، والتفلُّت من الضوابط الشرعية، ومن ربقة العبودية لله، وبئس المآل.
9- إن ما قمتُ به من جرد للقواعد المقصدية، وما بحثتُه في أصل المآل بقواعده المتفرعة عنه؛ ويهمني منها: الذرائع، والحيل، وتحقيق المناط الخاص، إضافة إلى فقه الواقع، وفقه التنزيل، ومباحث الضرورة، والحاجة، ومراعاة مقاصد المكلفين؛ وكلها موضوعات يرتبط بعضها ببعض؛ لأنها من مرتكزات الاجتهاد المقاصدي، ولها صلة وثيقة بالاستنباط الفقهي للأحكام من مداركها، وبتنزيلها على واقع الحياة المتجدد باستمرار؛ كل ذلك كان الغرض منه توظيف تلك المباحث، واستثمارها في استنباط حكم بعض التطبيقات الفقهية؛ ومنها: الانخراط والمشاركة في تدبير الشأن العام في ظل الأوضاع الفاسدة- وهو من قضايا السياسة الشرعية- وفي استنباط حكم (الرهن) بصورته المعاصرة، وحكم المال المستفاد، هل يُزكَّى فور استفادته؛ إذا كان بالغا النصاب، أم لابد من دوران الحول عليه؟ وحكم القروض المصرفية لأجل السكن، هل المُلجئ إليها هو الضرورة أم الحاجة؟ وإذا كانت الحاجة هي المُلجئ، فهل تُنزَّل منزلة الضرورة بإطلاق، أم أن ذلك تحكمه معايير خاصة، وضوابط مرعية؟ إضافة إلى ما تناولْتُه في نازلة البيع الآجل الذي يتم بموجبه الأداء عن طريق الوسيط البنكي الذي يتولى اقتطاع الأقساط من المشتري في مقابل ربح (مصاريف الملف)!.
10- إذا تقرر أن الأحكام السياسية تأتي في المرتبة التشريعية الثالثة من حيث قصدُ الشارع إليها؛ أي أن الشارع قصد عدم التنصيص المباشر والمفصل على هذه الأحكام؛ في الكتاب والسنة؛ فإن للاجتهاد فيها مساغا، ومجالا واسعا؛ ولذلك كان لزاما على العلماء وفقهاء القانون الاهتمام بالسياسة الشرعية، وتأطير اجتهاداتهم بمقاصد الشريعة الغراء، وأصول الإسلام وقواعده الكلية، لا بمقاصد النفس الأمّارة بالسوء، فكل ما كان خادما لهذه المقاصد من الوسائل، يُعطى له حكم تلك الغايات؛ عملا بقاعدة" للوسائل حكم المقاصد "
11- كثير من العقود بطلت عند المالكية ولم تصح- مع سلامة ظاهرها- كنكاح التحليل، وطلاق المريض مرض الموت، وبيوع الذرائع الربوية؛ بناء على مراعاة مقاصد المكلفين والاعتداد ببواعثهم من تصرفاتهم. وإن شئت القول: هذا المنع إنما انبنى على مراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، وتم المصير إليه اعتبارا للمآل، وسعيا لتحقيق قصد الشارع من إبرام العقود؛ وهذا يستلزم -بالضرورة- من المفتي والقاضي النظر إلى ملابسات التنزيل، وما يُحيط بالتصرفات من قرائن، وأمارات، وشواهد حال. ويستلزم من المكلف نفسه العمل على تصحيح نواياه وبواعثه ومقاصده من تصرفاته؛ حتى تتوافق مع مقاصد الشارع الحكيم.
12-كل ما أتى على أصل من أصول الشريعة بالإبطال، أو أدى إلى هدم مقصد من مقاصدها بضروب من الحيل فهو ممنوع، موردٌ صاحبه المهالك.
13- رجحان قول المالكية والحنابلة بعدم تصحيح العقود والتصرفات التي لم تسلم بواعث أصحابها؛ بماظهر من القرائن والأمارات وشواهد الحال الدالة على سوء القصود والبواعث، وفساد النواياه.
14- فقه المالكية فقه عملي؛ ولذلك عنيَ بملابسات التنزيل. والأصولُ المعتمدة لهذا الفقه؛ ومنها اعتبار المآل، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، ومراعاة مقاصد المكلفين، والعرف، والاستحسان...إنما هي فرع عن أصل كبير مستوعب وجامع، ودائرةٌ في فلكه، وهو الاجتهاد المقاصدي الذي أمّه الراسخون في العلم، وأناخوا عيرهم، وحطوا رحالهم عنده؛ فأداروا النصوص على مقتضياته.
2- آفاق البحث
وأختم ببعض آفاق البحث لأقول بأن على الخبراء في المجالات الفقهية والأصولية والمقاصدية تعميق البحث في:
1- طرق الكشف عن المقاصد؛ أعني مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، بمزيد من الاستقراء والتتبع للنصوص الشرعية، واجتهادات العلماء الراسخين.
2- ضوابط تعليل الأحكام، وتقصيد النصوص؛ لمعرفة متى يكون الظاهر هو المقصود، ومتى يكون الغرض والمعنى هو المقصود، وهذا يتطلب التدقيق في كشف المقصود أولا.
3- فقه التنزيل، بما يعنيه ذلك من تكييف للنصوص والاجتهادات، بما يُحقق أغراضها، ويُمكِّن لمعانيها في الواقع، وهذا يتطلب تجاوز مرحلة الاستنباط المجرد للأحكام من النصوص بغض النظر عن إمكانية تطبيقها. والوصول إلى مرحلة الصياغة لتلك الأحكام بما يُمهد السبيل إلى انسيابها في الواقع بما يحقق مقاصدها ويؤدي إلى سعادة الدارين؛ إذا خلصت النيات، وتوفرت الإرادات لترسيمها، وإعمالها، وبهذا يكون لقاعدة" صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان" معنى عمليا إجرائيا.
4- العكوف على تراث محقق المالكية ومجددها؛ النظار أبو إسحاق الشاطبي؛ لاستخراج درره الغوال، واعتمادها سندا قويا لإنضاج الفقه بأنواعه، بما يُمهد لإعمال مقتضيات النصوص؛ إعمالا سليما بعيدا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
كانت هذه أهم نتائج البحث وخلاصاته وآفاقه. ولا أدعي بأني أحطتُ خُبرا بتفاصيل الموضوع، ولا سلكتُ كل شِعابه، ولا أني مصيبٌ في جميع ما انتهيتُ إليه من تقريرات وأحكام.
وحسبي أني مهدتُ السبيل لذوي الهمم العالية، وأولي الالباب من الباحثين والدارسين والعلماء العدول الحاملين لأمانة العلم؛ عسى أن نستهدي بفهومهم، ونسترشد بدقة نظرهم.
فإن أصبتُ فبتوفيق من الباري جلت قدرته، وإن أخطأت فمن تقصيري، وقلة زادي، وضعفي باعتباري بشرا. وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.
(ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا)[27]، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)[28].
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المُرسَل رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار.
وكان الفراغ من تبييضه سحر يوم الثلاثاء 23 رمضان المبارك لسنة 1432هـ، الموافق ل: 24غشت 2011م.
[1]- منهج الدرس الدلالي عند الشاطبي، ص: 489 .
[2]- نحو تفعيل مقاصد الشريعة،ص: 138.
[3]- الموافقات، 2/251.
[4]- رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، رقم الحديث: (1901)، والحديث بلفظه: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)، صحيح البخاري، 1/586. وساقه في كتاب الإيمان، رقم: (29)، ج1/18 بالصيغة التي ذكره بها ابن عبد البر. وقد ورد بصيغ أخرى في الصحيح، فضلا عن كتب السنن والمسانيد.
[5]- التمهيد، 7/106؟
[6]- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص: 194؟
[7]- بيان الدليل على بطلان التحليل: ص: 85، إعلام الموقعين: 4/499 والموافقات: 3 /7 .
[8]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 7.
[9]- شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا، القاعدة الثانية، ص: 55.
[10]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 9.
[11]- مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، ص: 9.
[12]- سيأتي في ثنايا البحث دوافع اختيار الشاطبي من بين مجددي المالكية، و مزيد من شهادات العلماء فيه، في المبحث الثاني من الفصل الثاني ضمن الباب الثالث.
[13]- الموافقات، 4/94.
[14]- نفسه.
[15]- نفسه، 2/246.
[16]- نفسه، 2/246.
[17]- نفسه.
[18]- الموافقات، 2/251.
[19]- الذخيرة: 10/109، والفروق : 4/7 للإمام القرافي.
[20]- الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 189. المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا : 2/1014، شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا، ص: 471
[21]- البعد المقاصدي لمراعاة التهمة في الأحكام الشرعية، قضايا ونماذج، بحث غير منشور، ص: 6.
[22]- أنظر المجلد العاشر من المعيار المعرب، ص: 206 وما بعدها، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
[23]- مقدمة ابن خلدون، 1/11.
[24]- فيض القدير، 1/39.
[25]- نقل هذا الكلام عن كشف الظنون صاحب كتاب مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص: 16، ونسبه إلى القاضي الفاضل البيساني في رسالة أرسلها إلى عماد الدين الأصفهاني. وأحسب أن الدكتور مصطفى شلبي قد وهِمَ حين نسب الكلام ذاته إلى عماد الدين الأصفهاني، فقال: "قال العماد الأصفهاني: (...) وذكر ذات النقل دون أن يوثقه ولا أن يحيله على مصدره".أنظر الصفحة الأخيرة من كتابه:" تعليل الأحكام"
[26]- مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، مقدمة المؤلف، ص: 20.
[27]- سورة الكهف، الآية:10
[28]- سورة البقرة، الآية:119.
آخر تحديث (الاثنين, 29 أكتوبر 2012 17:26)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى